صناعة الدفاع، إلى أين؟

بحجم أعمال أكثر من 100 مليار يورو وتوليد 1.2 مليون ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، فإن صناعة الدفاع الأوروبية لها أهمية إضافية تتجاوز جانبها الأمني المتأصل. ويمكن لسياسة الدفاع الأوروبية المنسقة والرشيدة أن تحقق أرباحاً فعالة من خلال تخصص البلدان أو المناطق أو الشركات في مجالات وتكنولوجيات معينة ومن خلال توسيع الشركات الصغيرة والمتوسطة ومن جهد ومشاركة لاعبين كبار من الدول مثل النمسا وجمهورية التشيك وفرنسا والمانيا وايطاليا وبولندا واسبانيا والسويد والمملكة المتحدة.

ومن الواضح أن أوروبا تواجه تهديدات تتطلب قوة تتناسب مع مستوى جديد من فقدان الشجاعة الذي يوفر دفاعاً موثوقاً والتزاماً كبيراً. وفي مواجهة هذه التحديات المعقدة من الجانب الأمني، فلا تزال أوروبا تتواجد تحت مظلة الأمن الأمريكي ومرتبطة بحلف الناتو. تغيير الأولويات الاستراتيجية لواشنطن باتجاه منطقة المحيط الهادئ، يضع أوروبا في موقف تحديد وتعزيز مسار لبناء خيارات دفاعية، يمكن الاعتماد عليها، وقادرة على مواجهة التحديات الأمنية.

وفي هذا السياق، تلعب “صناعة الدفاع الأوروبية” (على المستوى الأوروبي لا يوجد سوى عدد قليل من المجالات، وتتم المجالات الأخرى في صناعات الدفاع الوطني) دوراً حاسماً في تنسيق وترشيد سياسة الدفاع الأوروبية. وعلى الرغم من انتشارها بشكل غير متساو في كامل الاتحاد الأوروبي، إلا أن توجيهاً موحداً للسياسات الصناعية يمكنه أن يولد تدفقات تجارية جديدة بين الشركات المتخصصة بالفعل وشركات من دول أخرى.

ولمحة موجزة في الماضي القريب تساعدنا على فهم أفضل لماذا هناك اختلافات بين الصناعات الدفاعية في أوروبا الغربية والشرقية، وأخيراً وليس آخراً، لماذا يجب علينا قياس توقعاتنا نسبة لحقيقة واضحة.

وأعقبت الحرب العالمية الثانية، فترة التسلح بمساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية وإعادة بناء قدرات صناعة الدفاع الأوروبية، مدفوعة بالطموحات الوطنية وباقتصاد أوروبي في طريقه إلى التعافي. وأدت التكاليف الباهظة لهذه السياسة ومضاعفة الجهود من جانب الدول المختلفة إلى الحاجة إلى استمرار التعاون مع الولايات المتحدة.

وفي وقت لاحق، مثلت فترة زيادة التعاون بين الأوروبيين تغيراُ في السياسة في مجال صناعة الدفاع، قائمة على الأرجح على نهج تشاركي كنتيجة لعدم الرضا عن السياسات الأمريكية المقيدة بخصوص النقل العسكري للتكنولوجيا والوصول إلى الأسواق.

وأعقب هذه المرحلة، في نهاية الحرب الباردة، فترة إعادة الهيكلة وتعزيز الإنتاج من أجل زيادة القدرة التنافسية.

وأدى الحد الكبير من الطلب على المعدات العسكرية (في الفترة 1989-1995، انخفض الطلب على المعدات العسكرية في أوروبا بنسبة 31٪) إلى انخفاض في قدرة صناعة الدفاع في جميع البلدان بإنتاج معدات الدفاع عن النفس.

وقد أنتجت هذه التطورات، التي ساهمت إلى حد كبير وبمنافسة متزايدة من جانب في صناعة الدفاع في الولايات المتحدة تغييراً في الموقف المتجسد في الجهود الرامية إلى تحقيق التكامل الصناعي على المستوى الإقليمي، الذي يضمن بقاء الصناعات الدفاعية قادرة على المنافسة في أوروبا.

وعلى عكس أوروبا الغربية، وفي بلدان أوروبا الشرقية، فإن نهاية الحرب الباردة كانت تعني تغييرات أكثر دراماتيكية في مجال الصناعات الدفاعية.

ومع انهيار حلف وارسو وظهور بيئة أمنية أوروبية جديدة وجدت صناعة الدفاع في أوروبا الوسطى والشرقية لديها قدرة على إنتاج أكثر من طاقتها على الاستيعاب وقدرة متطورة بشكل يلبي طلبات القوات المستعدة لحرب ذي كثافة عالية.

وأبرز السياق الاستراتيجي والاقتصادي والسياسي الجديد الحاجة إلى تحديث القوى. وبالإضافة إلى ذلك، وضعت مصطلحات المعاهدة الخاصة بالقوات المسلحة التقليدية في أوروبا (1990) تعهدات ملزمة للحد من مستوى أنواع معينة من المعدات الموجودة في مخزون القوات المسلحة الإقليمية.

وأظهرت المحاولات اليائسة للتعامل مع الأزمة الناجمة عن فقدان الأسواق الهامة وللحفاظ على الإنتاج دون بيعه بهدف دعم التوظيف، في وقت قصير، أنه لا يمكن تحملها.

وبالإضافة إلى ذلك، فإذا كان يبدو أن الموارد المخصصة سابقاً للمواجهات المسلحة يمكن أن تصبح متاحة للاستثمار في المجالات الاقتصادية والاجتماعية غير العسكرية بعد عام 1994، والتفاؤل مثل هذا القرار تراجع مما أدى إلى الاعتراف بأن إعادة هيكلة صناعة الدفاع ستكون عملية مكلفة وطويلة الأمد.

وفي ظل هذه الظروف، على المستوى الأوروبي، فإنه على الرغم من وضع خطط لتنويع استراتيجيات الشركات بخصوص التخصص في الإنتاج وعمليات الدمج والتموين والشركات المشتركة (BAE Systems وEADS وTales وMBDA وغيرها)، فإن صناعة الدفاع في أوروبا الشرقية إذا استثنينا بولندا غير متواجدة في هذه العملية على المستوى الأوروبي.

وكصفة مميزة، فإن صناعة الدفاع هي في الغالب داخل أوروبا، وبكميات قليلة نسبياً خارج الأطلسي. وفيما يتعلق بالعلاقات عبر الأطلسي، تسعى فرنسا إلى الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي، ولكنها تحاول الاستثمار في السوق الأمريكية، وألمانيا لديها شراكة مع الولايات المتحدة يتم من خلالها تحديد سلسلة التوريد الألمانية لبرامج الأسلحة الأمريكية، وتتابع إيطاليا باستمرار سياسة التعاون النشط في سياق حلف الناتو ولكن أيضاً من خلال الاتفاقيات الثنائية، وفيما يتعلق بالمملكة المتحدة، فهي تتمتع بامتيازات الشراكة الاستراتيجية. وفي نفس الوقت، تعتبر السويد مثالاً على التعاون عبر الأطلسي في مجال القدرات الصناعية الخاصة لبناء الغواصات والطائرات العسكرية، بروابط طويلة الأمد مع الولايات المتحدة يعود تاريخها إلى الحرب الباردة.

وتختلف الروابط عبر الأطلسي من بلد إلى آخر، ولها إحداثيات مختلفة، إلا أن القيود المفروضة على استخدام المعدات العسكرية المستوردة، وكذلك القيود المفروضة على التقنيات التي لا يمكن نقلها أو التي لا يمكن استخدامها في شراكات الأخرى تخلق العديد من الصعوبات التعاونية. وهناك أمل أن تعمق مبادرات المفوضية الأوروبية في هذا المجال الروابط بين القاعدة التكنولوجية والصناعية للدفاع الأوروبي DTIB وتلك الموجودة في الولايات المتحدة، خاصة عندما تكون مفيدة للطرفين.

ومن الواضح أن صناعة الدفاع في غرب أوروبا، ممثلة بشركات الأسلحة الرئيسية والمعدات العسكرية، هي الوحيدة التي يمكنها الآن التنافس مع الأمريكيين في السوق العالمية ولكن مستقبل الكيانات الثانوية في كل من غرب ووسط وشرق أوروبا لا يبدو مشجعاً على الإطلاق. ويرتبط مصيرهم بالقدرة على الانخراط في إنشاءات جديدة عابرة لأوروبا لإعادة تشكيل صناعة الدفاع. والعمل بشكل منعزل وبدون تنسيق سوف تفقدهم الفرصة لتنشيط قدراتهم الإنتاجية الخاصة في هذا المجال وكذلك توفير المعدات لجيوشهم الخاصة.

وفي هذا السياق، فإن الحاجة إلى تعاون أوثق في السياسة الأمنية كبيرة جداً. ويجب استخدام الميزانيات الوطنية بحذر، والتعاون في هذا المجال سيخلق إمكانية تحقيق وفورات كبيرة. ولأسباب اقتصادية، فإن انخفاض معدل استثمار دول الاتحاد الأوروبي، التي لا تملك صناعة دفاعية متطورة، سيجبر هذه الدول على البحث عن حلول لتنشيط هذه الصناعة من خلال التعاون.

ومن هذا المنظور، يجب أن تمثل ميزانيات الإنفاق الدفاعي أولوية كبرى لمواجهة التحديات الاستراتيجية والتهديدات الخارجية والمستقبل غير المضمون.

 (المصدر: موقع مونيتورول أباريري بتاريخ 11/6/2018)